سوريا- مستقبل المناطق الحدودية في ظلّ صراعات النفوذ والتدخلات الخارجية

في غضون فترة وجيزة، استطاعت الحكومة السورية الجديدة إحكام قبضتها على السلطة في المناطق الداخلية بسلاسة غير معهودة، ودون مواجهة عقبات جمة. لكن، على النقيض من ذلك، يشوب الوضع على امتداد المناطق الحدودية تعقيدات جمة، حيث تتجلى أشكال متغايرة من التوترات والتحديات في معظم هذه المناطق، ويغيب وضوح الرؤية السياسية اللازمة للتعامل مع هذا الواقع المعقد. هذا الأمر يثير تساؤلات جمة حول مستقبل هذه المناطق، في ظل سعي حثيث من قِبَل لاعبين إقليميين ودوليين للتأثير في مسار الأحداث السورية، انطلاقًا من هذه البؤر الحدودية الملتهبة.
واقع موروث
مع انطلاقة الثورة السورية، فقدت دمشق سيطرتها على أغلب الشريط الحدودي، ممّا أفسح المجال أمام تشكيل سلطات أمر واقع في تلك المناطق. وحتى المناطق التي تمكن نظام الأسد من استعادة السيطرة عليها، مثل الحدود مع العراق، ولبنان، والأردن بعد عام 2018، ظلت تعاني حالة من الفوضى العارمة. وقد تجذرت في هذه المناطق شبكات ذات ارتباطات خارجية، وازدهر اقتصاد الجريمة المنظمة، القائم على التهريب وتجارة المخدرات والأسلحة. وبدلًا من أن يسعى النظام لضبط هذه المناطق وإدارتها بكفاءة، انخرط في شراكة مع الفاعلين المحليين في هذا الاقتصاد الإجرامي، إما بدافع الحاجة إلى العائدات المادية التي يوفرها هذا النمط الاقتصادي، أو لأسباب سياسية ترمي إلى امتلاك أوراق ضغط على البيئة الإقليمية التي عزلته، كما هو الحال مع الحدود الأردنية.
اليوم، وعلى الرغم من التغيّرات التي شهدتها سوريا بسقوط نظام الأسد، يبدو أن المناطق الحدودية لا تزال عصيّة على الخضوع لسلطة دمشق. ويضاف إلى ذلك الحدود البحرية، حيث تشهد المناطق الساحلية السورية حالة من الاضطراب نتيجة لوجود فلول موالين للنظام السابق، يرون في استقرار السلطة الجديدة تهديدًا وجوديًا لمصالحهم. وبالتالي، فإن فرصتهم الوحيدة للنجاة تكمن في إثارة الفوضى في الساحل، وتوسيع نطاقها، وإضعاف السلطة المركزية.
وفي شرق سوريا، وعلى الرغم من الاتفاقيات الموقعة بين الكرد وإدارة الشرع، يتضح جليًا أن هذه التفاهمات تتسم بالهشاشة الشديدة. فالعلاقة بين الطرفين تشهد صراعًا لم يتم حسم تفاصيله بعد، ولا يبدو أنه سيحسم في المستقبل القريب، في ظل الغموض الذي يكتنف الموقف الأميركي من إدارة الشرع، واستمرار إيران في ممارسة نفوذها عبر شبكتها التي لا تزال فاعلة في شرق سوريا، وتسعى جاهدة لاستعادة سيطرتها على المنطقة.
يكمن التحدي الأساسي الذي يواجه الإدارة السورية الجديدة في سعيها الدؤوب لتحقيق توازن دقيق في علاقاتها مع كل من تركيا والولايات المتحدة. وبالتالي، فإن كل خطوة تخطوها ستكون محسوبة بدقة. علاوة على ذلك، فإن القوة التي يمتلكها الكرد، ممثلة بالذراع العسكرية المتمثلة بقوات "قسد"، تكاد تشكل قوة موازية لقوات دمشق، ممّا يعني أن اتباع سياسات غير تفاوضية من شأنه أن يستنزف قدرات دمشق، التي تواجه بالفعل أوضاعًا معقدة في مناطق عدة.
في جنوب سوريا، تواجه إدارة دمشق معضلة متشعبة الأوجه، تتمثل في حالة الفوضى المتفشية في درعا، وتمرد فصائل السويداء، والتوسع الإسرائيلي في الشريط الحدودي. وعلى الرغم من أهمية حل اللواء الثامن في شرق درعا، إلا أنه لا يمثل إضافة حقيقية لسيطرة إدارة دمشق في جنوب سوريا، في ظل الفوضى العارمة التي تعيشها المنطقة، والنقص الحاد في أعداد كوادر الأمن التابعين لسلطة دمشق، ممّا يضعف قدرتها على فرض سيطرتها على مختلف المناطق.
علاوة على ذلك، ترفع فصائل السويداء، بالتوافق مع المرجعيات الدينية في المحافظة، سقف مطالبها من الإدارة السورية، انطلاقًا من إدراكها بأن رد فعل الشرع سيكون محكومًا بمحددات خارجية، إسرائيلية على وجه التحديد، ترى أن فرض إدارة الشرع سيطرتها على السويداء بالقوة قد يغير المعادلة التي فرضتها بالإكراه في جنوب سوريا.
الفراغ الجاذب للتدخل
لقد تشكلت في جميع المناطق الحدودية السورية سلطات هجينة. ففي حين أبقت بعض المناطق الحدودية على رموز النظام السابق، إلا أنها في المقابل قامت بتشكيل بنى سلطوية لإدارة شؤون المجتمعات التي تسيطر عليها. وقد تجلى ذلك بوضوح في شرق سوريا في ظل الإدارة الذاتية الكردية، وبدرجة أقل في السويداء ودرعا. في المقابل، تشكلت في شمال سوريا سلطات بديلة فرضتها قوى لا تنتمي لمجتمعات المنطقة، مثل تركيا وهيئة تحرير الشام.
إلا أنه في جميع هذه المناطق، كان هناك فراغ واضح في السلطة الشرعية. فجميع السلطات المذكورة ظلت شرعيتها متأرجحة بين كونها سلطة أمر واقع، أو تحظى بقبول نسبي وليس أغلبيًا، نظرًا للتداخل الديموغرافي، واعتبار السلطة تمثل مكونًا واحدًا وليس جميع المكونات، كما هو الحال في الإدارة الذاتية الكردية في شرق سوريا، أو لوجود تيارات وتوجهات متضاربة حتى داخل المكون الواحد، كما في حالة السويداء، أو باعتبار البنى السلطوية إشكالية، كما في حالة هيئة تحرير الشام في إدلب، ومناطق سيطرة القوات التركية.
في جميع هذه الحالات، يمكن القول إن حالة الفراغ التي تشكل السمة الغالبة على الوضع في المناطق الحدودية، قد أصبحت نقطة جذب للفاعلين الخارجيين لملء هذا الفراغ، لأسباب جيوسياسية تتماشى مع تصورات أولئك الفاعلين لمستقبل سوريا، أو بذريعة حماية أمن حدودهم من احتمالات الفوضى التي قد تنتجها حالة الفراغ في مناطق سوريا الحدودية.
مخاطر استمرار الوضع الحدودي
لقد تحولت جميع الفواعل المحلية في المناطق الحدودية إلى أدوات لسيطرة خارجية، أو وكيل يعمل تحت إشراف سلطة أجنبية، أو هي على استعداد تام لأن تكون ذراعًا لطرف خارجي، بهدف تحقيق مصالح محلية ضيقة.
يكمن الخطر الحقيقي في أن المناطق الحدودية باتت تتحكم في تشكيل جزء كبير من المشهد السوري في المرحلة المقبلة، أي في تحديد الشكل الذي ستتخذه الدولة، مركزية كانت أم لامركزية، ويشمل ذلك طبيعة الجيش والقوى الأمنية وهياكلها وعقائدها. إن طرح اللامركزية من قبل الفاعلين المحليين يتسم بطابع إداري، يهدف إلى تسيير شؤون المجتمعات المحلية بسلاسة ويسر.
لكنه، وبالنظر إلى واقع الوضع السوري، ليس سوى ستار لمشاريع سياسية واجتماعية، لا يمكن ضمان عدم تحولها إلى بؤر انقسامية في ظل ظروف الضعف التي تعيشها سوريا. وحتى في جانبها الإداري، يمكن أن تتحول إلى صراع على الموارد والثروات، في ظل الانقسام الذي تعيشه المجتمعات المحلية السورية، وحالة انعدام الثقة بين المكونات المختلفة التي تتساكن في إقليم معين.
لعل الخطر الأكبر يكمن في صراع القوى الإقليمية والدولية على إعادة تشكيل سوريا الجديدة وفقًا لمصالحها، ممّا حول البلاد إلى ساحة اختبار لتلك المصالح. ويتعامل كل فاعل دولي أو إقليمي مع الوضع السوري على أنه يشكل فرصة ذهبية لتحقيق مصالح يجب استثمارها بأي طريقة ممكنة.
كيف يمكن تفكيك مخاطر الحدود؟
لا يكفي إلقاء اللوم على الفاعلين المحليين، أو التذرع بوجود مؤامرة تحاك ضد سوريا ووحدتها واستقرارها. فما دامت الدولة لم تتوصل إلى مقاربات حاسمة لإدارة الأوضاع، ستبقى أبوابها مشرعة لعبور المخاطر التي تهدد بزعزعة استقرار البلاد. لا بد من التّعاطي مع حقيقتَين: الأولى أن الحلول العنيفة لن تجدي نفعًا في حل قضية المناطق الحدودية لما تنطوي عليه من مخاطر على الوحدة الوطنية، ولأنها ستستدرج تدخلًا خارجيًا حتميًا. فهناك أطراف عديدة تتربص بمثل هذه الزلات لتحقيق طموحاتها في سوريا تحت ذريعة حماية بعض المكونات من الإبادة.
وثانيًا، لأن مرحلة السنوات الماضية قد أوجدت واقعًا يصعب تجاوزه، حيث تشكلت تصورات وطموحات حول طبيعة العلاقة مع دمشق، كما تكونت بنى سلطوية وإدارية متغلغلة داخل مجتمعات الحدود.
والملاحظ أن جميع تلك المناطق، على عكس مراكز المدن الداخلية، باتت تضم مرجعيات ذات وزن مؤثر في التأثير في التوجهات العامة في تلك المناطق. وعليه، فإن الخروج من هذه الوضعية يتطلب ما يلي:
أولًا: توسيع دائرة الحوار الوطني وإشراك المكونات السورية، وفهم مشاكلها وهواجسها، وتوسيع قاعدة تمثيلها في البرلمان المزمع تأسيسه في المرحلة المقبلة، أي بمعنى من المعاني، تفكيك عقدة الخوف والهواجس لدى المجتمعات المحلية المختلفة، ونزع ذرائع الأطراف الخارجية ل التدخل في الشأن الداخلي السوري.
ثانيًا: ترسيخ علاقات دمشق في الإطارين العربي والدولي، والتأكيد على أن استقرار سوريا ووحدتها قضية تمس أمن المنطقة والعالم. وبالتالي، ضرورة النظر إلى الوضع السوري الحالي ليس ضمن نطاق المصالح الضيقة، بل من منظور أوسع يأخذ بعين الاعتبار هشاشة الأوضاع الأمنية في المنطقة، وتأثير حالة عدم الاستقرار في سوريا على الأمن الإقليمي، وانعكاس كل ذلك على الأمن العالمي برمته.